سورة التوبة - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {ما لَكُمْ} {ما} حرف استفهام معناه التقرير والتوبيخ التقدير: أي شيء يمنعكم عن كذا كما تقول: مالك عن فلان معرضا. ولا خلاف أن هذه الآية نزلت عتابا على تخلف من تخلف عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام، وسيأتي ذكرها في آخر السورة إن شاء الله. والنفر: هو التنقل بسرعة من مكان إلى مكان لأمر يحدث، يقال في ابن آدم: نفر إلى الام ينفر نفورا. وقوم نفور، ومنه قوله تعالى: {وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً} [الاسراء: 46]. ويقال في الدابة: نفرت تنفر بضم الفاء وكسر ها نفارا ونفورا. يقال: في الدابة نفار، وهو اسم مثل الحران. ونفر الحاج من منى نفرا.
الثانية: قوله تعالى: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} قال المفسرون: معناه اثاقلتم إلى نعيم الأرض، أو إلى الإقامة بالأرض. وهو توبيخ على ترك الجهاد وعتاب على التقاعد عن المبادرة إلى الخروج، وهو نحو من أخلد إلى الأرض. وأصله تثاقلتم، أدغمت التاء في الثاء لقربها منها، واحتاجت إلى ألف الوصل لتصل إلى النطق بالساكن، ومثله {ادَّارَكُوا} [الأعراف: 38] و{فَادَّارَأْتُمْ} [البقرة: 72] و{اطَّيَّرْنا} [النمل: 47] و{ازَّيَّنَتْ} [يونس: 24]. وأنشد الكسائي:
تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا *** عذب المذاق إذا ما أتابع القبل
وقرأ الأعمش {تثاقلتم} على الأصل. حكاه المهدوي. وكانت تبوك- ودعا الناس إليها- في حرارة القيظ وطيب الثمار وبرد الظلال- كما جاء في الحديث الصحيح على ما يأتي- فاستولى على الناس الكسل فتقاعدوا وتثاقلوا فوبخهم الله بقوله هذا وعاب عليهم الإيثار للدنيا على الآخرة. ومعنى {أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ} أي بدلا، التقدير: أرضيتم بنعيم الدنيا بدلا من نعيم الآخرة ف {مِنَ} تتضمن معنى البدل، كقوله تعالى: {وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60] أي بدلا منكم.
وقال الشاعر:
فليت لنا من ماء زمزم شربة *** مبردة باتت على طهيان
ويروى من ماء حمنان. أراد: ليت لنا بدلا من ماء زمزم شربة مبردة. والطهيان: عود ينصب في ناحية الدار للهواء، يعلق عليه الماء حتى يبرد. عاتبهم الله على إيثار الراحة في الدنيا على الراحة في الآخرة، إذ لا تنال راحة الآخرة إلا بنصب الدنيا. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة وقد طافت راكبة: «أجرك على قدر نصبك». خرجه البخاري.


{إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}
فيه مسألة واحدة- وهو أن قوله تعالى: {إِلَّا تَنْفِرُوا} شرط، فلذلك حذفت منه النون. والجواب {يُعَذِّبْكُمْ}، {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} وهذا تهديد شديد ووعيد مؤكد في ترك النفير. قال ابن العربي: ومن محققات الأصول أن الامر إذا ورد فليس في وروده أكثر من اقتضاء الفعل. فأما العقاب عند الترك فلا يؤخذ من نفس الامر ولا يقتضيه الاقتضاء، وإنما يكون العقاب بالخبر عنه، كقوله: إن لم تفعل كذا عذبتك بكذا، كما ورد في هذه الآية. فوجب بمقتضاها النفير للجهاد والخروج إلى الكفار لمقاتلتهم على أن تكون كلمة الله هي العليا.
وروى أبو داود عن ابن عباس قال: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً} و{ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} إلى قوله: {يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120] نسختها الآية التي تليها: {وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122]. وهو قول الضحاك والحسن وعكرمة. {يُعَذِّبْكُمْ} قال ابن عباس: هو حبس المطر عنهم. قال ابن العربي: فإن صح ذلك عنه فهو أعلم من أين قاله، وإلا فالعذاب الأليم هو في الدنيا باستيلاء العدو وبالنار في الآخرة. قلت: قول ابن عباس خرجه الامام أبو داود في سننه عن ابن نفيع قال: سألت ابن عباس عن هذه الآية {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً} قال: فأمسك عنهم المطر فكان عذابهم. وذكره الامام أبو محمد بن عطية مرفوعا عن ابن عباس قال: استنفر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبيلة من القبائل فقعدت، فأمسك الله عنهم المطر وعذبها به. و{أليم} بمعنى مؤلم، أي موجع. وقد تقدم. {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} توعد بأن يبدل لرسوله قوما لا يقعدون عند استنفاره أيا هم. قيل: أبناء فارس.
وقيل: أهل اليمن. {وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً} عطف. والهاء قيل لله تعالى، وقيل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والتثاقل عن الجهاد مع إظهار الكراهة حرام على كل أحد. فأما من غير كراهة فمن عينه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرم عليه التثاقل وإن أمن منهما فالفرض فرض كفاية، ذكره القشيري. وقد قيل: إن المراد بهذه الآية وجوب النفير عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم. وظاهر الآية يدل على أن ذلك على وجه الاستدعاء فعلى هذا لا يتجه الحمل على وقت ظهور المشركين فإن وجوب ذلك لا يختص بالاستدعاء، لأنه متعين. وإذا ثبت ذلك فالاستدعاء والاستنفار يبعد أن يكون موجبا شيئا لم يجب من قبل إلا أن الامام إذا عين قوما وندبهم إلى الجهاد لم يكن لهم أن يتثاقلوا عند التعيين ويصير بتعيينه فرضا على من عينه لا لمكان الجهاد ولكن لطاعة الامام. والله أعلم.


{إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}
فيه إحدى عشرة مسألة: الأولى قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ} يقول: تعينوه بالنفر معه في غزوة تبوك. عاتبهم الله بعد انصراف نبيه عليه السلام من تبوك. قال النقاش: هذه أول آية نزلت من سورة براءة. والمعنى: إن تركتم نصره فالله يتكفل به، إذ قد نصره الله في مواطن القلة وأظهره على عدوه بالغلبة والعزة.
وقيل: فقد نصره الله بصاحبه في الغار بتأنيسه له وحمله على عنقه، وبوفائه ووقايته له بنفسه ومواساته له بماله. قال الليث بن سعد: ما صحب الأنبياء عليهم السلام مثل أبي بكر الصديق.
وقال سفيان بن عيينة. خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ} الثانية: قوله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وهو خرج بنفسه فارا، لكن بإلجائهم إلى ذلك حتى فعله، فنسب الفعل إليهم ورتب الحكم فيه عليهم، فلهذا يقتل المكره على القتل ويضمن المال المتلف بالإكراه، لالجائه القاتل والمتلف إلى القتل والإتلاف.
الثالثة: قوله تعالى: {ثانِيَ اثْنَيْنِ} أي أحد اثنين. وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة. فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة وخامس أربعة، فالمعنى صير الثلاثة أربعة بنفسه والاربعة خمسة. وهو منصوب على الحال، أي أخرجوه منفردا من جميع الناس إلا من أبي بكر. والعامل فيها {نَصَرَهُ اللَّهُ} أي نصره منفردا ونصره أحد اثنين.
وقال علي بن سليمان: التقدير فخرج ثاني اثنين، مثل {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً} [نوح: 17]. وقرأ جمهور الناس {ثانِيَ} بنصب الياء. قال أبو حاتم: لا يعرف غير هذا. وقرأت فرقة {ثاني} بسكون الياء. قال ابن جني: حكاها أبو عمرو بن العلاء ووجهه أنه سكن الياء تشبيها لها بالألف. قال ابن عطية: فهي كقراءة الحسن {ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا} وكقول جرير:
هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم *** ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
الرابعة: قوله تعالى: {إِذْ هُما فِي الْغارِ} الغار: ثقب في الجبل، يعني غار ثور. ولما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة قالوا: هذا شر شاغل لا يطاق، فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبيتوه ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج، فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه، ودعا الله أن يعمي عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض فلما أصبحوا خرج عليهم علي رضي الله عنه وأخبرهم أن ليس في الدار أحد فعلموا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فات ونجا. وتواعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أبي بكر الصديق للهجرة، فدفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أرقط. ويقال ابن أريقط، وكان كافرا لكنهما وثقا به، وكان دليلا بالطرق فاستأجراه ليدل بهما إلى المدينة. وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خوخة في ظهر دار أبي بكر التي في بني جمح ونهضا نحو الغار في جبل ثور، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع ما يقول الناس، وأمر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه ويريحها عليهما ليلا فيأخذ منها حاجتهما. ثم نهضا فدخلا الغار. وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق تأتيهما بالطعام ويأتيهما عبد الله بن أبي بكر بالأخبار، ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم فيعفي آثار هما. فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف بقفاء الأثر، حتى وقف على الغار فقال: هنا انقطع الأثر. فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته، ولهذا نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتله فلما رأوا نسج العنكبوت أيقنوا أن لا أحد فيه فرجعوا وجعلوا في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مائة ناقة لمن رده عليهم.
الخبر مشهور، وقصة سراقة بن مالك بن جعشم في ذلك مذكورة. وقد روي من حديث أبي الدرداء وثوبان رضي الله عنهما: أن الله عز وجل أمر حمامة فباضت على نسج العنكبوت، وجعلت ترقد على بيضها، فلما نظر الكفار إليها ردهم ذلك عن الغار.
الخامسة: روى البخاري عن عائشة قالت: استأجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا، وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وأعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث فارتحلا وارتحل معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم طريق الساحل. قال المهلب: فيه من الفقه ائتمان أهل الشرك على السر والمال إذا علم منهم وفاء ومروءة كما ائتمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا المشرك على سره في الخروج من مكة وعلى الناقتين.
وقال ابن المنذر: فيه استئجار المسلمين الكفار على هداية الطريق.
وقال البخاري في ترجمته: باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام قال ابن بطال: إنما قال البخاري في ترجمته أو إذا لم يوجد أهل الإسلام من أجل أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما عامل أهل خيبر على العمل في أرضها إذ لم يوجد من المسلمين من ينوب منابهم في عمل الأرض، حتى قوي الإسلام واستغني عنهم أجلاهم عمر. وعامة الفقهاء يجيزون استئجار هم عند الضرورة وغير ها. وفيه: استئجار الرجلين الرجل الواحد على عمل واحد لهما. وفيه: دليل على جواز الفرار بالدين خوفا من العدو، والاستخفاء في الغيران وغير ها ألا يلقي الإنسان بيده إلى العدو توكلا على الله واستسلاما له. ولو شاء ربكم لعصمة مع كونه معهم ولكنها سنة الله في الأنبياء وغير هم، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وهذا أدل دليل على فساد من منع ذلك وقال: من خاف مع الله سواه كان ذلك نقصا في توكله، ولم يؤمن بالقدر. وهذا كله في معنى الآية، ولله الحمد والهداية السادسة: قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا} هذه الآية تضمنت فضائل الصديق رضي الله عنه. روى أصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم عن مالك {ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا} هو الصديق. فحقق الله تعالى قوله له بكلامه ووصف الصحبة في كتابه. قال بعض العلماء: من أنكر أن يكون عمر وعثمان أو أحد من الصحابة صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كذاب مبتدع. ومن أنكر أن يكون أبو بكر رضي الله عنه صاحب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كافر، لأنه رد نص القرآن. ومعنى {إِنَّ اللَّهَ مَعَنا} أي بالنصر والرعاية والحفظ والكلاءة. روى الترمذي والحارث بن أبي أسامة قالا: حدثنا عفان قال حدثنا همام قال أخبرنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن في الغار: لو أن أحد هم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما». قال المحاسبي: يعني معهما بالنصر والدفاع، لا على معنى ما عم به الخلائق، فقال: {ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]. فمعناه العموم أنه يسمع ويرى من الكفار والمؤمنين.
السابعة: قال ابن العربي: قالت الإمامية قبحها الله: حزن أبي بكر في الغار دليل على جهله ونقصه وضعف قلبه وخرقه. وأجاب علماؤنا عن ذلك بأن إضافة الحزن إليه ليس بنقص، كما لم ينقص إبراهيم حين قال عنه: {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ} [هود: 70]. ولم ينقص موسى قوله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى. قُلْنا لا تَخَفْ} [طه 67، 68]. وفى لوط: {وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} [العنكبوت: 33]. فهؤلاء العظماء صلوات الله عليهم قد وجدت عندهم التقية نصا ولم يكن ذلك طعنا عليهم ووصفا لهم بالنقص، وكذلك في أبي بكر. ثم هي عند الصديق احتمال، فإنه قال: لو أن أحد هم نظر تحت قدميه لأبصرنا. جواب ثان- إن حزن الصديق إنما كان خوفا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصل إليه ضرر، ولم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك الوقت معصوما وإنما نزل عليه {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] بالمدينة.
الثامنة: قال ابن العربي: قال لنا أبو الفضائل العدل قال لنا جمال الإسلام أبو القاسم قال موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] وقال في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا} لا جرم لما كان الله مع موسى وحده ارتد أصحابه بعده، فرجع من عند ربه ووجد هم يعبدون العجل. ولما قال في محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا} بقي أبو بكر مهتديا موحدا عالما جازما قائما بالأمر ولم يتطرق إليه اختلال.
التاسعة: خرج الترمذي من حديث نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد- له صحبة- قال: أغمي على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...، الحديث. وفيه: واجتمع المهاجرون يتشاورون فقالوا: انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار ندخلهم معنا في هذا الامر. فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. فقال عمر رضي الله عنه: من له مثل هذه الثلاث {ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا} من {هُما}؟ قال: ثم بسط يده فبايعه وبايعه الناس بيعة حسنة جميلة. قلت: ولهذا قال بعض العلماء: في قوله تعالى: {ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ} ما يدل على أن الخليفة بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لان الخليفة لا يكون أبدا إلا ثانيا. وسمعت شيخنا الامام أبا العباس أحمد بن عمر يقول: إنما استحق الصديق أن يقال له ثاني اثنين لقيامه بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأمر، كقيام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به أولا. وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما مات ارتدت العرب كلها، ولم يبق الإسلام إلا بالمد ينه ومكة وجواثا، فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على الدخول في الدين كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين. قلت- وقد جاء في السنة أحاديث صحيحة، يدل ظاهرها على أنه الخليفة بعده، وقد انعقد الإجماع على ذلك ولم يبق منهم مخالف. والقادح في خلافته مقطوع بخطئه وتفسيقه. وهل يكفر أم لا، يختلف فيه، والأظهر تكفيره. وسيأتي لهذا المعنى مزيد بيان في سورة الفتح إن شاء الله. والذي يقطع به من الكتاب والسنة وأقوال علماء الامة ويجب أن تؤمن به القلوب والأفئدة فضل الصديق على جميع الصحابة. ولا مبالاة بأقوال أهل الشيع ولا أهل البدع، فإنهم بين مكفر تضرب رقبته، وبين مبتدع مفسق لا تقبل كلمته. ثم بعد الصديق عمر الفاروق، ثم بعده عثمان. روى البخاري عن ابن عمر قال: كنا نخير بين الناس في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان. واختلف أئمة أهل السلف في عثمان وعلي، فالجمهور منهم على تقديم عثمان. وروي عن مالك أنه توقف في ذلك. وروي عنه أيضا أنه رجع إلى ما عليه الجمهور. وهو الأصح إن شاء الله.
العاشرة: قوله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} فيه قولان: أحد هما: على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والثاني: على أبي بكر. ابن العربي: قال علماؤنا وهو الأقوى، لأنه خاف على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القوم فأنزل الله سكينته عليه بتأمين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسكن جأشه وذهب روعه وحصل الأمن وأنبت الله سبحانه ثمامة، وألهم الوكر هناك حمامة وأرسل العنكبوت فنسجت بيتا عليه. فما أضعف هذه الجنود في ظاهر الحس وما أقواها في باطن المعنى! ولهذا المعنى قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر حين تغامر مع الصديق: «هل أنتم تاركو لي صاحبي إن الناس كلهم قالوا كذبت وقال أبو بكر صدقت» رواه أبو الدرداء.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها} أي من الملائكة. والكناية في قوله: {وَأَيَّدَهُ} ترجع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والضميران يختلفان، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب. {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى} أي كلمة الشرك. {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا} قيل: لا إله إلا الله.
وقيل: وعد النصر. وقرأ الأعمش ويعقوب {وَكَلِمَةُ اللَّهِ} بالنصب حملا على {جَعَلَ} والباقون بالرفع على الاستئناف. وزعم الفراء أن قراءة النصب بعيدة، قال: لأنك تقول أعتق فلان غلام أبيه، ولا تقول غلام أبي فلان.
وقال أبو حاتم نحوا من هذا. قال: كان يجب أن يقال وكلمته هي العليا. قال النحاس: الذي ذكره الفراء لا يشبه الآية، ولكن يشبهها ما أنشد سيبويه:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء *** نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فهذا حسن جيد لا إشكال فيه، بل يقول النحويون الحذاق: في إعادة الذكر في مثل هذا فائدة وهي أن فيه معنى التعظيم، قال الله تعالى: {إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها} [الزلزلة: 1، 2] فهذا لا إشكال فيه. وجمع الكلمة كلم. وتميم تقول: هي كلمة بكسر الكاف. وحكى الفراء فيها ثلاث لغات: كلمة وكلمة وكلمة مثل كبد وكبد وكبد، وورق وورق وورق. والكلمة أيضا القصيدة بطولها، قاله الجوهري.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15